الرأي العام
من النظرية إلى التطبيق

العلاقة بين الرأي العام والسلطة السياسية وانعكاسها على العراق

علي عبود المحمداوي
مدرس الفلسفة المساعد - كلية الاداب - جامعة بغداد

الرأي العام والسياسة العامة
علاقة المطالب بالبرامج الحكومية

إذا كانت السياسة العامة تعني : ماتقوم به الحكومة أو تعتزم القيام به لحل مشكلة عامة تواجه المجتمع ، أو لتوفير حاجات يتطلبها المجتمع أو لتحقيق أهدافه أو حلول مشاكله ([1]) ، فانه يتحتم علينا أن نقر بتأثير الرأي العام على السياسة العامة في تحديد برامجها وموضوعاتها وعليه يمكن القول أن الرأي العام يمثل هنا مرحلتين الأولى تمثل المطالب كسبب لرسم السياسة العامة والمرحلة الثانية هي متابعة نتيجة السياسة المخططة والمتبعة والصادرة عن السلطة ( كسياسة عامة) والمتابعة هذه تعد مصدرا للتغذية الاسترجاعية التي على أساسها تقاس مديات تطابق التشريعات مع مصالح المجتمع ، لكن يتوجب علينا أن نبين معنى أن يكون رأيا ما ، رأياً عاماً . وعليه ماهي شروط أن يكون القول أو الفكر أو الخطاب الجمعي رأياً عاماً ؟
اعتقد انه يمكن تلخيص هذه الشروط بما يلي:
1- أن تكون هنالك حكومة منظمة ، فمن دون سلطة تنظم مطالب الرأي وتستجيب له ، يكون من السخف أن نقر بوجود رأيا عاما .([2])
2- وجوب وجود نوع من التجانس الاجتماعي والذي يمثل مفهوم الأمة ، وذلك بالضد من الانقسامات الطبقية أو السياسية أو الدينية أو العرقية والجنسية ، وذلك لان أي رأي لايمكن أن يأخذ شرعيته باعتباره رأيا عاما مادام مفهوم المصلحة العامة - التي تتمثل بالهوية الكبرى أو الأمة التي تجمع تحتها كل الانقسامات المتوقعة والتي تعرقل نشوء رأي عام - غائب .
3- يجب أن يكون للأقلية حرية التعبير عن جميع آرائها بشرط الوسائل السلمية ، وذلك لأن هامش الحرية هذا يعد مبررا لتكوين الرأي العام وان كان يمثل رأي الأغلبية دونما الأقلية وان كان قد خالفها ، اعتقادا منها إنها شاركت بإبداء رأيها بكل حرية وإنها لم تضطهد من الأغلب بل إنها ستعمل من اجل كسب رأي البعض من الأغلبية إلى صالحها ، وهذه الإمكانية المتاحة تعطي نوع من الشرعية للرأي العام . ([3])
4- أما عن تحقيق ماهية الرأي فليس كل ما يصدر عن الشخص من موقف يعد رأيا فقد يكون ليس صادرا عنه وعن إرادته الواعية الحرة ، وعليه يجب أن لا يكون الموقف والرأي صادرا عن الغير ومتبعا بصورة عمياء وتبعية بلاوعي ، بل يجب توفر الفهم والوعي لرأي الغير([4]) ، ودليل ذلك انه لايمكن عد الرأي الصادر من بعض الأشخاص الطيبين مثلا أو رجال الدين إتباعا أعمى وغير نقدي وغير واعي أو متفهم لأبعاده على انه رأي خاص بنا ومن ثم بمجموع مثل هكذا آراء يكون قد حققنا رأيا عاما ، لا فهنا الرأي لا يعد عاما لأنه ليس خاليا من هيمنة الآخر أو الغير وغياب الحرية للفرد صاحب الرأي وبالتالي غياب حرية المجتمع . وعليه وبعد بيان مستلزمات قيام الرأي العام ، فانه يتحتم علينا أن نفهم بيئة تكونه، وأدوات اتصاله بالسلطة ، واعتماد السياسة العامة عليه .
والبيئة الأساسية لتكوين الرأي العام هي المجال أو الميدان أو الفضاء العام ويقصد به : " مجموعة مؤسسات وأماكن عمومية تقف بين المجتمع المدني والدولة ، وتمارس الوساطة بين المصالح العامة والمصالح الخاصة "([5]) وهو يتكون من الصالونات الأدبية والثقافية بالإضافة إلى المقاهي والمشارب والأماكن المشتركة التي تجعل إمكانية قيام رأي عام يعارض أو يتابع سلطة الدولة وبرامجها قائماً .
و تلعب المعارضة والنقد والتقويم دور الثيمة الأساسية في الرأي العام ولاسيما حينما تظهر كمطالب تجاه النظام السياسي وسلطته من اجل تعديل نتائج السياسة العامة والحكومية لكي تكون ملائمة للمصلحة العامة ، وعليه يرى البعض إن القدرة على المعارضة - وهي عنصر تكويني أساسي في اللعبة السياسية- هي في طريقها إلى الاختفاء ، وعليه ينبغي إذا إعادة إطلاق أخلاقية المناقشة والحوار للتصدي ولصنع الرأي العام والذي هيمن عليه محترفو السياسة والتسويق وشركات الإعلان ، لذلك يتضح أهمية الرقابة على عالم السياسة ([6]) ، وعلى ذلك فإن إعادة البعدين الأخلاقي ( بين أفراد المجتمع عبر الحوار العقلاني ) والنقدي( الذي يبين هيمنة واستعمار السلطة والسوق للرأي العام ومجاله وبالتالي يتحكمون بمصير المجتمع) هي الكفيلة بإعادة هيكلة الرأي العام الناجح المؤثر بفعالية على قرارات السلطة ورجال السياسة . ومن ذلك يجب أن يكون الرأي العام "صندوق رنّان للمشاكل الاجتماعية الشاملة "([7]) وبقدر مايسعى الرأي العام التأثير في السياسة العامة بل وفي النظام السياسي ككل ، نجد أن العكس - أيضا موجود وبقوة ووضوح- وهو تدخل السلطة عبر أدواتها مثل الأحزاب {ووسائل الإعلام} في التأثير على الرأي العام ([8]) .
وعليه يبقى الجدل قائما بين السلطة والرأي العام عبر تبادل التأثير وذلك ما ينعكس على السياسة العامة .
قيام الرأي العام في العراق
عقبات لابد من تجاوزها

بعد ما تقدم من توضيح لمعنى الرأي العام والأسس والشروط التي يجب توفرها فإنه تتضح الإجابة عن التساؤل الذي يستفهم حول إمكانية وجود رأي عام في العراق . وهي ( أي الإجابة) انه غير موجود وهذا لا يعني انه كان وقد اختفى بسبب الظروف السياسية التي مر ويمر بها العراق منذ عام 2003 ، لا بل إن غياب الرأي العام يمتد إلى حقبات ابعد وأكثر عمقا في جذورها التاريخية ، وقد لا أبالغ إن قلت إنها تمتد إلى نشوء أولى النظم السياسية الغابرة ، حيث إن الولاء والرأي الأول والأخير لم يكن لمجموع الشعب وإرادتهم العامة وعليه لم يكن بإستطاعتهم أن يعوا أهمية أن يكونوا هم أصحاب الموقف ، بل كانت سياسة الاتكال القهري و القسري هي النافذة ، لذلك كانت الأمور موكولة إلى الكهنة تارة والى الحكام تارة أخرى ، وامتد وتواصل هذا المشروع حتى الفترة المعاصرة ، وبالرغم من ظهوره( الرأي العام) بشكل واضح وجلي في منتصف القرن الثامن عشر (1712-1778) مع روسو ومفهوم الإرادة العامة وان كانت تمثل أعظم من مفهوم الرأي العام الدارج اليوم إذ كانت تمثل السلطة الحقيقة والسيادة الجمعية للشعب على السلطة وليس في قبالها ، إلا إن الرأي العام وان اخذ ينحت باتجاه كونه موقف جمعي مثل الأغلبية أو إجماع المجتمع تجاه قضية من قضايا الشأن العام أو الشأن السياسي ، إلا إن العراق لم يستطع أن يستقبل هذا الضيف ،حاله حال الدول الشرق أوسطية التي كانت خاضعة لحكم إمبراطوريات تعسفية متطرفة دينيا ، أو تداول لإحتلالات واستغلال من قبل دول أجنبية ، دعا كل ذلك إلى عرقلة تنمية الفكر العراقي كجزء من كل هو معظم الشرق الأوسط ( أو ما يسمى بالعالم العربي) إلا إن بادرة الأمل كانت قد سجلت حينما تأسست الدولة العراقية كدولة بالمفهوم الحديث الذي يعتمد الشعب والحدود الجغرافية والسلطة السياسية أُسساً له .
إلا إن النظام الملكي وانتهاجه منهج وبرنامج إبقاء الحال على ماهو عليه باستثناء الخواص من الإقطاعيين والبرجوازيين ( واقصد بهم أصحاب الامتيازات والوجهاء وملاك رؤوس الأموال و..) كان بدوره يعد عقبة أخرى في سبيل تنمية الواقع العراقي الاجتماعي وبالتالي عرقلة قيام رأي عام أو حتى قيام أي رأي جمعي .
وتتالت الحكومات وبقي مشروع الإبقاء على ثقافة التخصيص الفئوي لرجالات السلطة وبالتالي للمؤثرين في القرار العراقي السياسي مقتصرا في كل فترة على أناس دونما غيرهم متناسين بذلك إنهم قتلوا موضوعة التجانس الاجتماعي ومحاولة تذويب الفوارق الاجتماعية والسياسية التي نشأت بسبب هذه السلوكيات .
وكذلك وحينما ظهر مفهوم وممارسة الحزب السياسي في العراق فإنه لم يستطع أن يتعامل مع موضوعة الرأي العام وتنميته وذلك لأسباب مختلفة منها هلامية معالم الحزب نفسه وتمثيله للأقلية في اغلب التجارب في العراق ،و اعتماد موضوع الحزب المهيمن والأوحد كنموذج للممارسة الحزبية في العراق مما حدا بالرأي العام لان يكون خاضعة لقوة السلطة ( العسكرية وغيره ) كما أصبح أسيراً لشبكات الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة والتي أحكمت القبضة على حرية الرأي عبر توجيهه في صالح السلطة على الدوام .
وحينما وصل العراق إلى المرحلة الجديدة عام 2003 والتي هدت النظام الاستبدادي معلنة بداية جديدة شبيهة بمرحلة تأسيس الدولة العراقية في العشرينات ، وذلك عبر محاولة إقامة نظام سياسي لم يشهده العراقيون ولم يعوه بعد ( النظام الديمقراطي الحاضر ، والملكي النيابي سابقا) وبعد انبثاق أول الدساتير المشرعة باستفتاء شعبي في العراق وتأسيس البرلمان وانتخاب أول حكومة كمشاركة فعلية للشعب وخالية من الهيمنة والاستبداد نوعا ما ، نشأ نظام تعددي حزبي نقل المعادلة من الحزب الواحد إلى انفراط عقد التعددية الحزبية لتجد نفسها أمام أزمة أخرى وعقبة مضافة في طريق تكوين الرأي العام في العراق ، لان المعلوم إن اغلب الأحزاب المتشكلة بالعراق أصبحت تشبه العمل النقابي الذي يمثل فئات معينة من الشعب دون غيرها (المصالح الخاصة لفئة دونما غيرها) ، وذلك سبب غياب الأحزاب الوطنية الكبرى ( عن التأثير والتمثيل )والتي يمكن لها أن تمثل الطموح .
إذن يمكنني أن أوجز عقبات قيام رأي عام في العراق بالاتي:
1- غياب مفهوم الأمة والذي تجلى تاريخيا بالتفضيل الطبقي والعرقي والديني والسياسي مما حدا بالتجانس الاجتماعي المفترض قيامه تلازما مع نشوء الدولة العراقية كدولة حديثة . وذلك لان الدولة الحديثة مرتبطة ارتباطا لصيقا بمفهوم الأمة .
2- ترتب على غياب مفهوم الأمة غياب إمكانية تمثيل حزب معين للشعب برمته أو أغلبيته ، لذلك أصبح العمل الحزبي رهين المصالح الفئوية والخاصة ؛ وان كان هذا الأمر ينطبق على الكثير من الأحزاب على المستوى العالمي .
3- غياب البيئة المناسبة لنشوء وتنمية الرأي العام واقصد بها : غياب فاعلية الصالونات الأدبية والثقافية واقتصارها إما على الابتعاد وهجرة الواقع وهي المهمة التي يقوم بها الفن العراقي اليوم أو عبر المنتوج الثقافي الذي ينأى بنفسه عن السياسة بسبب تراكمات الماضي (التي كممت الكثير من الأفواه وجففت الكثير من الأقلام) ، وان كان لا يخفى مساهمة البعض من الباحثين و الاكاديمين والمثقفين في إنتاج ما يمس الشأن العام تحليلا ونقدا ، إلا انه بقي للان محصورا في قفص المراكز الأكاديمية ،ومن المشاكل الأخرى التي تهدد قيام الميدان العام الذي هو أساس الرأي العام هو افتقاد هذه البيئة عناصر تكونها بسبب الإرهاب الفكري والجسدي الممارس من قبل البعض من فئات المجتمع العراقي ولاسيما الجماعات المتطرفة.

وعليه إذا أردنا أن ننشئ رأيا عاما عراقيا فإنه يتوجب السعي نحو بناء مفهوم الأمة العراقية ، وتخليص الأحزاب من الأطر التي أطرت نفسها بها ( الفئوية) نحو مشروع رحب هو الوطنية العراقية ، كما إننا يجب أن نسهم إسهاما واضحا مشتركا (مجتمعا وسلطة) في سبيل إعادة بناء المجال العام الذي هو البيئة والأرضية الواجب توفرها لخلق الرأي العام .

وهنالك من يعتقد بوجود رأي عام اليوم في العراق إلا إنه يجب أن يميز بين كونه تابع أو حر ومستقل هذا أولاً ، وثانيا إن مانشاهده من عمليات للتعبير عن الرأي الجمعي في العراق في غالبه يفتقد الروح المنهجية التي يتطلبها ممارسة الضغط أو تكوين المطالب والتي مازالت غير واضحة المعالم في كل التجمعات أو النقاشات حول موضوعات الشأن العراقي العام ؛ كما إنها في الغالب جاءت كردود فعل على ممارسات المغاير له في الهوية الفئوية ولم تكن تمثل الأمة العراقية.