صدر كتابنا الجماعي " الفلسفة السياسية المعاصرة .. من الشموليات الى السرديات الصغرى"

الفلسفة السياسية المعاصرة: من الشموليات الى السرديات الصغرى

اشراف تحرير ومساهمة: الدكتور علي عبود المحمداوي
مراجعة : الدكتور محمد شوقي الزين والدكتور اسماعيل مهنانة



جاءت البحوث والدراسات المتضمنة في هذا الكتاب لتعالج موضوعات مختلفة، وباختلافها ذلك شكلت نسقا: نسق التحول المستمر، في سبيل مجاراة أسئلة السياسة التي تتراكم وتكثر وتفيض في كل يوم.

تناولت الدراسة الأولى، التي قدمناها، موضوع تحولات السلطة واصلها في الفكر الحداثي، بوصفه تمهيداً لمنطلقات الفكر السياسي المعاصر الذي تراوح بين معطيات عقل الحداثة ونقدها، بين تمجيد القوة والاستبداد والحكم المطلق وإنتاج الفوهرر، وبين معطى الديمقراطية الليبرالية اللوكية، والتماهي مع مطلب الكليات الكانطية أو استهجانها، وحتمية الجدل الهيجلي، كل هذه الإشكالات السياسية حضرت تأسيساً ونقدا لتشكل خطاب تاريخي وسم بكونه خطا الحداثة، والتي جعلت من خطاب الفلسفة السياسي اليوم بين قابعا في ثناياها ومدافعا عنها، وبين رافض لها طاردا لحكاياتها.

فيما قدم الأستاذ محمد بكّاي دراسة حول الأبـعـاد البـراجماتية في الـتفكير السياسي عند جون ديـوي محاولا من خلالها أن يعرض فكرة الاداتية بصفتها مزاوجة بين النظرية والممارسة، فالفكرة هي أداة للعمل، وكيف تحول الفكر السياسي مع البراجماتية- ديوي من بحث في التأملات واليوتوبيات والدوران حول مشكل النظام السياسي الأصلح بمطلقية التصور، تحول من كل ذلك إلى صنع الموقف السياسي التحليلي لوصف الإشكال السياسي والبحث عن حله بما يرضي الجمهور- المواطنين، لذلك تتحول الأفكار إلى ذرائع للفعل السياسي. كما وضّح بكّاي كيف يمكن للمنهج البراجماتي ان يعمل على تثوير العقل بالضد من القيم البالية والثابتة لتعريتها مما لا ينفع منها أو ما لا يمكن أن يتحول إلى عمل نافع في حياتنا بما فيها التصورات الأيديولوجية السياسية .

          بينما جاءت دراسة الأستاذ بشير ربوح لتشخص بناء التسويغ الرأسمالي للاقتصاد السياسي، مع ماكس فيبر، في قراءة عبد الوهاب المسيري، لذلك فهو يزاوج بين ما أنتجه فيبر وما خلفه (خلّفه)من قراءات وتأويلات له في ماهية الدولة الدستورية- الديمقراطية،  وارتباطها بالمجتمعات الحديثة، والمقابل مع المجتمعات المتخلفة وسلطتها التقليدية والمتراوحة بين التقليدية والكارزمية.

وراحت دراسة الدكتور إسماعيل مهنانة تجوب خبايا المحذور الفلسفي والغموض الهيدغري لتخرج بمقال يكشف انبناء السياسي على الأنطولوجي، اشتقاقا من سؤال هيدغر الأول والرئيس عن ماهية الوجود إلى الانوجاد مع الآخرين مع مفهوم الدازاين المقذوف به في العالم والمتحتم عليه المصير، مع المستقبل والسير نحو والموت والية وطبيعة التزامن ينكشف دور فيلسوف السياسة في استشراف المستقبل والتنبؤ به على معطيات الواقع الذي قرأه هيدغر بين مشاكل الزيف وطموح الأصالة.

          ويقدم الدكتور عامر عبد زيد دراسة عن ماركيوز، محاولاً فيها كشف ملامح الخطاب السياسي (النقدي) الماركوزي، من نقد الرأسمالية إلى استعمال الفرويدية المعدلة، لينتج موقفا، لطالما سعت له مدرسة فرانكفورت، إنّه موقف التحرر بالنقد. ومن خلال نقد للماركسية في إهمالها للبعد النفسي وتأكيدها على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية يتحول ماركيوز إلى مستدعي لفرويد داخل الحيز الفكري الماركسي محاولا طرح إمكانيات جديدة في التحرر من القمع المؤسساتي والسياسي الذي نشأ عن التحالف بين الفكر والتقنية.

          ويعد التزاوج الابستيمولوجي/ السياسي حقلا لتصنيف عمل كارل بوبر، والذي حاولت الأستاذة سعاد حمداش البحث في ثناياه وخباياه، مبرزة لمحركات (محركات) النص البوبري في مسيرته نحو المجتمع المفتوح والتعددي، وكشف الالتباس بشأن الديمقراطية، وتقرير بوبر حولها بأنها: ليست صيغة للإجابة عن من الذي يحكم؟ بل كيف يمكن تداول السلطة سلميا.

وأبان الدكتور محمد شوقي الزين أهمية الدور الذي لعبته حنه أرندت في الفكر السياسي المعاصر وينطلق من تفريقه بين الفعل والعمل، وكيف لابد من حصر الفاعلية السياسية بمعنى البراكسيس الذي يظهر في تأسيسه دائمة لفعلية التعدد والاختلاف والجدل والحوار.. والفعل بهذه الصورة هو جوهر السياسة لدى أرندت، ولذلك ترى أرندت انه يجب أن لا تكون السياسة خاضعة لمنطق الغايات والنهايات والمنفعيات بقدر ما تحمل من دلالة البراكسيس الذي يأخذ معناه من ذاته بأنه المسار والمنهج والفاعلية. ذلك لأن تحويل السياسة إلى الاداتية، بمختلف مجالاتها، يغرِّب الإنسان ويشيئه. بل ويحكم علاقته بغيره وفق منطق الربح والمنفعة فقط. والحل لدى أرندت هو في التركيز على البعد الأدائي للفعل السياسي وذلك ما تجلى بأبهى صوره في المحاججات والجدلات في المكانات العامة لمناقشة قضايا الرأي العام وشؤونه. وذلك شبيه بما كانت تمثله الاغورا من مكان – فضاء عام للتناقش حول المصالح والقضايا العامة للمدينة اليونانية .

يعمد الأستاذ محمد بن سباع إلى توضيح الموقف الميرلوبونتي من الوجهتين السياسيتين: الشيوعية- الماركسية والليبرالية المعاصرة، ويعرض نقد ميرلوبونتي للماركسية لكونها اختزلت التاريخ في البعد الاقتصادي، وكذلك لأنها ركزت على العنف وتناست الأبعاد الإنسانية، كما ينتقد الليبرالية لكونها مشروعا لسياسة العنف من جهة ولأنها لاتوفر ارتكازا تاريخيا، مما يجعلها تتناقض في تصوراتها عن حقوق الإنسان والحريات، فتبتعد عن حاجة الإنسان اليوم التي يمكن التعبير عنها: بتقويم الماركسية وفضح خبايا العنف في الليبرالية وضياع المعنى التاريخي في خطابها وممارسته.

وقدم الدكتور عبد القادر بودومة دراسته في موضوع الجمالية والسياسة في فهم النص الليوتاري فيجوب في سياسات مابعد الحداثة مع ليوتار ليفهمها بأنها إعادة تشكيل قيمي ومحاولة للتخلص من الحكايات الفائقة (النظريات التاريخانية الكبرى) ومن ذلك ينتقد الماركسية محاولا التدليل على لاعقلانيتها من خلال الآثار الناتجة عنها بل ويأسها وصنعها للألم، ولذلك يعلن ليوتار ضرورة القطع معها وبالقدر نفسه الذي كاله للماركسية من النقد نجد ليوتار يسجل اعتراضه ونقده على الرأسمالية ويطابق بينها والعدمية، ذلك لأن السوق – الرأسمالي لايبقي قيمة لشيء إلا الربح الذي يتحول لمنطق يحكم فيه. ويدمج ليوتار بين بعدي السياسة والفن، فيعرف السياسة بأنها: فن تشكيلي للدولة، وبالطريقة التي يرسم بها ويشكل الرسام لوحته نجد الكيفية نفسها هي التي تكون شعب انطلاقاً من الجماهير . ويلتفت ليوتار ومن خلال منطق الاختلاف الذي يتبناه إلى أن الديمقراطية ليست نظاماً سياسياً بالضد من الاستبداد بل العكس فهي تريد تكريسه بصورة متزايدة.

فيما عمل الدكتور قاسم جمعة على إبراز السؤال السياسي في ثنايا خطاب ميشيل فوكو. وكيف أن موضوعاته في المنبوذ والمقصى والجنس والعقاب تعد موادا ثرية للإشكال السياسي من وجهة النظر الفلسفية، وكان لفوكو الأثر الأبرز في تحديد ماهية السلطة وعلاقة المثقف بها وسلوك السياسي تجاهها.

وحاولنا في دراستنا الثانية في هذا العمل بعنوان: عصر السميولاكرا وعنف النظام، في نقد الفائض الصوري السياسي، أن نكشف عن مديات الاستلاب حيال الواقع المصطنع في منطق الاستهلاك اليوم، وكيف أن بودريار وبتبنيه لمنهج الفكر الجذري ومقولة موت الواقع، استطاع أن يقدم رؤية نقدية تسير بنا نحو منهجية الإفراط حد الانبجاس لكل أزمة يراد تجاوزها، هكذا بدا بودريار نقديا متطرفا من جانب، ومثاليا من جانب آخر لما انعكس عن مقولته في الواقع المفرط من ضياع لمفهوم الحقيقة في آلية كشفها التقليدية (تطابقا مع الواقع). هذا الاصطناع عكس بظلاله على الفعل السياسي وايدلوجية النظام العولمي المهيمن على البشرية، ليكشف بودريار بوساطة نقده وتحليله انه الحمّال الاكبر لرمزيات العنف وماتبقى من واقعيته. ويطبق نظريته في الزائف الصوري على قضايا حرب الخليج والعولمة والارهاب وحادثة 11-ايلول، لتظهر كلها حاملة لفائض رمزي يدفعها لتبؤ مكانة مؤثرة في خطاب السياسة اليوم دونما واقعيتها.

ومع الدكتور محمد عبد السلام الأشهب تم إماطة اللثام عن خبايا الشأن التواصلي الهابرماسي، فمن نقد الاداتية إلى التأسيس للتواصل كمنفذ للخلاص من أزمة فلسفة الذات يقدم الأشهب عرضا وتحليلا لأهم أفكار يورغن هابرماس في موضوع الفضاء العام والعالم المعاش والتواصل وسلطته، وكيفية إمكانية تأسيس الحق ببعده القانوني عبر المحاجات المفضية للاتفاقات في الفضاء العام وتأسيس لمفهوم المواطنية كبعد كوني. وكل ذلك بآلية تواصلية؛ بيئتها: الحال المثالي للكلام: ومنطلقاتها: كونيات لغوية وأخلاقية، ونتائجها: عموميات حقوقية، تيسر الفهم والتعامل داخل العالم الاجتماعي كما تساهم في كشف الحقيقة عبر صنعها إتفاقياً.وذلك يتم برعاية الديمقراطية التشاورية والتي هي نتيجة للتواصل الشفاف و الإجماع حد استيعاب الاختلاف.

و بيّن الدكتور جاسم بديوي مشروع الكوني أو الأممية لدى دريدا ، محاولا كشف المخارج التي يكتبها دريدا في صيغته المستعارة من ماركس نحو أممية التعددية والإنسانية، بهامشيتها الضرورية واختلافها المقموع، بحث بديوي في علاج الجراحات العشرة العالمية بما فيها الإرهاب والمخدرات والهجرة الخ..، فكان موضوعا يثري عمل الفلسفة السياسية اليوم، ولاسيما مع خطابات مابعد الحداثة التي وصفت جزافا بأنها عبثية وبلا معنى، إنها المعنى في البحث عن الإنسان الذي ضاع واستلب.

فيما شكّلت دراسة الأستاذ محمد بوجنال كشفا بالتحولات التي أنتجها الخطاب مابعد الحداثي بشأن النظرية السياسية، فقد رافقت الانعطاف بمسار التاريخانية والسرديات الكبرى نحو مقولات صغرى ترتبط بتوصيف ونقد الشأن السياسية التزامني، بحثا عن مخارج لأزمات واقعية بدلا من النزوع نحو اليوتوبيات التي لا تزال حلما جميلا، إلا أنها أبعد ماتكون عن حاجة المتسائل في شأن السياسة اليوم. إنه تساؤل الخروج من المأزق الآني. هكذا تبدو محاولة بوجنال رصدا لتلك الإجابات في عصر التقنية ووضع مابعد الحداثية.

هكذا سيبدو الكتاب: نصاً في الفلسفة السياسية المعاصرة جامعا بحوثاً ودراسات متخصصة تكشف النسقية و الانعطافات الكبرى في المسار الفلسفي للسياسة أو لنقل في مسار التفلسف حول السياسة.