المشروع العقلاني- الديمقراطي من واقع الاستبداد إلى المخاوف من الحكم الأصولي
د. علي عبود المحمداوي
مدرس الفلسفة في كلية الآداب – جامعة بغداد
لطالما شكَّل النظام السياسي أداة للإصلاح والتدمير، أداة للهيمنة والحرية، هكذا نجد المتضادات يتناوبن على قالب السلطة، واليوم ما محل السلطة كأداة من وجه التحركات الإصلاحية الحاصلة في الشرق الأوسط ولاسيما العربي منه؟ هل أفل نجم الاستبداد؟ هل جاء دور الاسلامويين- الأصوليين من جديد؟ أم أن هنالك بارقة أمل في تبني خيار المشروع العقلاني- الديمقراطي؟ هذه هي أزمة الحياة الجديدة، حياة مابعد الاستبداد، اعتقد أن المشروع الديمقراطي الذي طالما سمعناه مخلصا ومنفذا لازمات دول ومجتمعات كثيرة، قد حان وقته ليحمل مشعلا لانارة درب البدائل في الواقع الإسلامي والعربي، إلا أن المشكلة الأساس اليوم تكمن في حذر هذه البدائل وامكانية الاخذ بهذا المشروع. فلايمكن أن تكون الديمقراطية العقلانية هي البديل الوحيد، بل إن هنالك مشاريع استبدادية وأصولية أخرى تلوح في الأفق! فواقع الدول العربية اليوم لا يبشر بمجيء النظام العقلاني، وان قبلنا بإمكانية قيام نوع من الديمقراطية، لكن وبسبب حالات الخضوع والخنوع التي استعملها الحكام العرب المخلوعين منهم أو السائرين صوبهم، أو من ينتظر نحبه، كلهم صنعوا تخندقات وبؤر ومنابع تغذي الفكر الأصولي التطرفي الإسلامي، وهؤلاء المصنعون، اليوم، يسيطرون على كثير من المجالات المؤسساتية الحكومية وغير الحكومية، إنهم يسوغون -بمعارضتهم للنظم الاستبدادية العلمانية- مشروعيتهم كاسلاموقراطية، وهذه مشكلة كبرى تنبثق في الحياة الجديدة للشعوب والتي لاتزال هلامية الهدف والإرادة. ما الحل؟ هل من استشراف؟ الواقع لا يعطي القدرة على التنبؤ بقدر ما يجعلنا قادرون على كشف ملامح خطيرة في حصر البدائل بالاستبداد، أو إرفاق الديمقراطية بنزعة اسلاموية متطرفة، وبسبب تلك المخاوف فإن الديمقراطية ،اليوم، تحتاج إلى توفير الكثير من الدعائم البيئية لغرض جعلها البديل الأوفر حظا في معادلة قبيحة إن استمرت على حالها. وهذه الأسس والدعائم يمكن أن تجمل بالاتي: أولا: صنع مرحلة الوعي: الوعي بالمشكلة، وتقع مهمة هذا الأمر على قادة الثورات الشعبية اليوم، كما إنها مهمة كبرى آنية للمثقف العربي الذي غاب عن القيام بالثورة، فعليه إتمامها وتقويم مسارها نحو العقلانية. ثانيا: تعميق التثوير: وهي مرحلة تتصف بمواصلة النقد والتقويم بصفته تثويرا أي استمرارية لمشعل الثورات الديمقراطية اليوم، كيف ذلك؟ بالعمل على الحد من هيمنات المؤسسات الدينية داخل المجتمع حد خرابه؛ إننا بحاجة إلى تنمية وعي المطلب الأول لجعله تثوير باتجاه هدم المرتكزات البيئية للاستبداد بطرفيه الديني والعلماني. ثالثا: العمل على التأسيس: وهي لحظة مواكبة للمرحلتين السابقتين: هذه مرحلة لاتقتصر على الفيسبوكيين أو النخب المنعزلة حين الثورة، ولا على القانونيين المراد لهم اليوم المساهمة في خلق جو دستوري جديد، بل هي مرحلة تحتم على كل مواطن عربي- في إطار حدود مواطنته، أن يعمل من اجل إيقافها بلا عكازات الأصوليين أو الحنين إلى الاستبداد، إنها سبيل تحقيق الذات العربية المنهوكة والمجروحة من تراث قاسي وعنيف، وقد تستمر إلى مستقبل مخيف. إذن لا سبيل إلا في مواصلة التثوير والتأسيس، إنها عملية هدم وبناء، لا يخفى علينا كونها مهمة صعبة، إلا أن الإطاحة بأنظمة عربية فاسدة وأخرى على طريقها، كان من المستحيلات في يوم من الأيام، وليس من الصعب فقط. هذه أسس تزامنية تارة وتعاقبية أخرى، وهي بيئة تساهم في خلق إمكانيات الديمقراطية العقلانية، ديمقراطية تبدأ بتحقيق أساليب التداول السلمي للسلطة والانتخاب، لترتفع نحو إقرار سيادة قانونية، لتساهم في تنمية المجتمع وتزجه في مصافي الدول والمجتمعات الحديثة، وما سبق من الهم هو مشكلة جوهرية في الملائمة بين صفة المجتمع وشكل النظام ، فـ(فيبر) مثلا يصنف المجتمعات وإمكانية انبثاق الأنظمة السياسية عندها بالاتي: - مجتمعات تقليدية تنتج سلطة تقليدية ، قبلية ، مستبدة، متخلفة. - مجتمعات التحول الخارجة من محنة القبلية والتخلف أو مسار التحول، تعود لفكرة الإلهام السياسي أي إن القائد يصبح ملهما سياسيا وكاريزما حاكمة يجب التشبث بها. - أما المجتمعات الحديثة فهي ترافق السلطة العقلانية، إنها المجتمعات الخارجة من كل أزمات التقليد والإلهام والخنوع، إنها القادرة على خلق نظام ديمقراطي عقلاني. ها نحن اليوم والفرصة مؤاتية، لكي نأخذ ونتمسك بالمطلبين مطلب مجتمع حديث، وسلطة عقلانية. من أين نبدأ؟ هل نبدأ مجتمعيا؟ أم سلطويا؟ سؤال تراثي وحداثوي، ليس بالجديد، وكما اعتاد العقل العربي في إيجاده لحلول ثلاثية: إما من السلطة أو من المجتمع أو بكليهما، أقول انه لابد من كسر لنسق ميتافيزيقي سيطر على فهمنا للحقائق، وذلك بإيجاد مخرج جدي وحل جذري قابل للتحقق، إنها فرصة الحل بلا خيارات قسرية، نحن نرغب بقصص ومرويات صغرى تحل أزمتنا الحالية لا مطلقات أيديولوجية، وسرديات كبرى، لم تسلمنا إلا لأيدي الاستسلام، هو حل الوعي- النهضة، و التثوير، من اجل تنوير كامل، وتنحصر إجابتنا البديلة عن الثلاثية القسرية، الآنفة الذكر، بكونها الكل واللاكل، إنها حل الفرصة من أينما ما جاءت، نحن أمام لحظة اغتنام فرص، لكي لاندفع ثمن تاريخ يراد له أن يكتب، الفرصة الأفضل هي الإجابة، إن حصلت مجتمعيا بدأنا بها وان تمثلت بإصلاح سياسي- سلطوي فلامناص عنه، بل وان كان كليهما كان الأجدى بنا أن نمسك بها كلحظة انعطافية جديدة في الفكر والواقع العربي، الذي لم يشهدها من قبل. وها نحن اليوم نلمح لحظات الوعي المجتمعي وصناعة السلطة العقلانية، فكأننا أمام واقع يتحقق لأول مرة في مسارنا التراثي، هل سنبحث عن الملهم أم سنتقهقر إلى قبيلتنا، وهويتاها الضيقة، قد تعترضنا مشكلة أخرى في مسارنا نحو العقلنة وهي اصطدامنا بأوهام قبيلة جديدة، إنها قبيلة المذهب والطائفة، لكننا لابد أن نعول على مراحلنا السابقة ولاسيما مرحلة الوعي بالمشكلة التي ستجعل من الهوية المواطنية هي وسيلة المشروع العقلاني، هانحن مرة أخرى أمام أماني جميلة وحاملة للأمل هي تلك التي لاتريد أن نتراجع عن الإمساك بمعطى الاستبداد أو مبنى الأصولية و الانتصار لمسار تاريخ مغلق، بل إلى مستقبل بلا قيء التراث، مستقبل مشروع يراد له أن يهدم المباني والمعطيات التاريخية والتنشوية المقيتة في واقعنا العربي. آمال وشكوك هي حالنا.