نماذج الديمقراطية وأزماتها



دراسة في جدلية العلاقة بين الفرد والدولة
وفق النظام السياسي الديمقراطي



علي عبود المحمداوي
مدرس الفلسفة المساعد في كلية الآداب – جامعة بغداد




نماذج الديمقراطية وأزماتها



الأنظمة السياسية وعلى مر الأزمنة، لم تكن (في يوم من الأيام وعلى مستواها التطبيقي) ، قد استطاعت أن تحقق آمال أفرادها المتطلعين دوما إلى المثال فيها ، والعدالة لهم ، والتمتع بحقوقهم وحرياتهم الفردية والجمعية ، لذلك كانت مهمة النظام السياسي* لصيقة بالفشل أو عدم الرضا أو فقدان الشرعية (إلا ما ندر) ، وبقدر ما يتضح فساد الكثير من تلك الأنظمة السياسية كالاستبدادية الدكتاتورية ، أو ملكيات الحق الإلهي ، أو ارستقراطيات الخواص والامتيازات ، أو الأنظمة العسكرية والتطلع للأمجاد والشرف على حساب شعوب تلك الأنظمة ، إلا إن النظام البديل الذي يعرض في كل مرة (بعد كشف زيف نظام سياسي أو عدم أهليته ) هو النظام الديمقراطي في محاولة للخلاص ، وكأن الديمقراطية هي ذلك المثال وتلك العدالة وتلك الضمانة للحقوق والحريات ، وإيمانا منا بذلك أيضا ، فإنه يستوجب البحث في إمكانية أن يكون النظام الديمقراطي هو البديل الصحيح والأصلح ، ودراستنا هذه تركز على أنواع الديمقراطيات وموضوع الأزمات أو المشاكل الرئيسية التي يمكنها أن تعتري النظام الديمقراطي مما يجعله قد لايمثل تلك الطموحات .

نماذج الديمقراطية :
هنالك العديد من النماذج الديمقراطية وقد يخضع تقسيمها وتعدادها لمعايير مختلفة ، ومعيار تقسيمنا هو التقابل بين الفرد أو المجتمع والدولة ، أي مدى تمثيل النظام الديمقراطي لإرادة مواطنيه وأفراده ، وذلك في جدل سيادة الشعب والدولة ، وكيف يمكن تحقق كل منهما عبر الآليات الديمقراطية داخل أي نموذج منها ، وبقدر ماهنالك من اختلافات في نماذج الديمقراطية ، فإنه يوجد مشتركات يمكن تلمسها في اغلب نماذج الديمقراطية ،وتشكل في إطارها العام ايجابيات** وأزمات للمفهوم العام للديمقراطية ومحاولة تطبيقها . وقبل الشروع في تشخيص تلك الأزمات ، نرى من الحري بنا أن نذكر أهم النماذج الديمقراطية عبر التاريخ والإطار النظري الفلسفي لشكل الحكم حسبها .

النموذج الأول : النموذج الأثيني وهو الديمقراطية المباشرة ، هو النموذج السائد لفترة ليست بالهينة على مستوى الأهمية ، فقد كانت مثال الديمقراطيات عبر التاريخ ، والاستنارة التي وجدت الشعوب( الراغبة في التحرر) فيها المنار والمشعل ولحظة الخلاص .
وكانت هذه الديمقراطية تجعل من الشعب هم الحُكّام والمَحكُومين في الوقت نفسه وذلك عبر المقولة الشهير ( حكم الشعب نفسه بنفسه) ، فالشعب هو مصدر كل السلطات وهو ممارسها ، وهو المراقب لها والمحاسب عليها .
وامتازت هذه الديمقراطية بكونها تعتمد آلية التصويت المباشر في قراراتها في الشأن العام ، كما من خصائصها إنها كانت في إطار جغرافي صغير نسبيا يسمح بممارسة الشعب الصغير بدوره من ممارسة حكمه لنفسه بنفسه .
و من ابرز المشاكل التي تؤشر عليه هو مفهوم المواطنة الذي اقتصر عل نسبة قليلة من الشعب وذلك باستثنائه للعبيد والأجانب والنساء من التصويت وممارسة الحكم ، وذلك لمبررات منها إن المجتمع الأثيني مجتمع ملاك وعبيد ولا امتيازات حينها للعبيد ، كما إن قضية المرأة كانت لا تشكل أهمية ولا يعتد بوجودها كمساهم في الحياة السياسية أو الشؤون العامة ، أما اليوم فقد دخلت كفاعل رئيس وكمواطن يتمتع بكل مزايا المواطنة من الحقوق والواجبات ، بل تعدى الأمر إلى محاولة تعويض عما فاتها من خلال الحركات النسوية والمطالب الخاصة النسائية وليس المواطنية .

النموذج الثاني : الديمقراطية الجمهورية وتعرف الجمهورية على إنها "الحكومة التي يكون فيها للشعب بمجموعه ، أو بممثلين عنه ، حصة أساسية في السلطة" ([1]) والديمقراطية الجمهورية هي النظام الذي يقوم على أساس انبثاق السلطة عن الشعب أو ممارستها من قبله مباشرة أو بواسطة الانتخاب والاختيار، وبذلك فإن مفهوم الأمة والتجانس يلعب دورا أساسيا فيها ، وبمعيار الأغلبية في التصويت دون المراعاة أو الأخذ بعين الاعتبار مسألة الأقليات وحقوقها ، أو محاولة إذابة واقع الأقلية مع توجه الأغلبية لتحقيق رأي الشعب الذي سيكون بدوره رأي الأغلب ،([2]) لذلك اتهم بكونه دكتاتورية الأغلبية وفي هذا النقد كلام كثير ونحن لا نتفق معه ،وعليه فهي تبحث عن الروح والإرادة الكلية الجمعية التي تمثل الشعب ورأي أغلبيته أن لم يتحصل الإجماع.
والديمقراطية الجمهورية بدورها تنقسم إلى قسمين هما: الحمائية و التنموية ، ويقصد بالجمهورية الحمائية هي مشاركة الشعب في الحكم لأجل حمايته من استبداد الآخرين عليه ، والمشاركة السياسية شرط أساسي من شروط الحرية الشخصية وهي في سبيل توازن القوى بين الشعب وامتيازات الملوك وارستقراطيين، أما التنموية فهي مشاركة الشعب عبر تنمية تلك المشاركة وعبر فصل السلطات وإمكانية محاسبة الحكام دعما لسلطة الشعب وزيادة في وعيه بالمطالبة بالحرية واستقلال تقرير المصير .

النموذج الثالث : الديمقراطية الليبرالية وهي على عكس الجمهورية في مسألة الأغلبية فقد دعت إلى المطالبة ومحاولة إشراك الأقليات في الحكم عبر تقسيم السلطات أو عبر تفعيل آلية المعارضة الوفية أو الموجهة ، وهي في حقيقة الأمر تقضي بالاهتمام بحقوق الأفراد كأفراد وليس كشعب أو امة أو أغلبية ، لذلك يكون مفهوم الأقلية حاضر ويعد حجر الزاوية في التنظير الليبرالي ، ويجب أن لايفهم من ذلك أن حق الأقلية هذا يؤخذ بإقصاء الأغلبية أو انتقاص حقوقهم بل عبر برامج تفعيل دورهم ومحاولة تمكينهم من الحكم سواء الوطني أو المحلي ، وهي في أصلها قائمة على المعيار الاقتصادي وملكية الفرد ، وكذلك هي تنقسم إلى قسمين هما الليبرالية الحمائية والليبرالية التنموية .فالحمائية نابعة من كون المواطنين "بحاجة إلى الحماية من الحكام كما من بعضهم البعض"([3] ) إذ يكتسب الفرد أهمية خاصة في الليبرالية كما هو الحال عند فلاسفة عصر التنوير والذين تبنوا فكرة العقد الاجتماعي مثل. وتتم حماية حقوق الأفراد في الديمقراطية الليبرالية بتضمينها في الدستور ولذلك تسمى أيضا بالديمقراطية الدستورية ([4] )، والتنموية تدعي وجوب الدخول في الحياة السياسية ليس للحماية فقط ،بل لإيجاد كتلة مواطنين مطلعة وملتزمة ومتطور ونامية ، وذلك عبر إشراك المواطنين في مختلف فروع الحكم ولاسيما الحكم المحلي ، وترسيخ حقوق الأفراد المتعلقة بحرية الفكر والذوق والمناقشة والنشر ،وعلى العموم فإن الليبرالية تقوم على الإيمان بالنزعة الفردية القائمة على حرية الفكر و التسامح و إحترام كرامة الإنسان و ضمان حقه بالحياة و إعتبار المساواة أساسا للتعاون و منطلقا لإحترام الأفراد وضمان حريتهم و لا يكون هناك أي دور للدولة في العلاقات الإجتماعية أو الأنشطة الإقتصادية إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد و المجتمع ، و تقوم الليبرالية أيضا على تكريس سيادة الشعب عن طريق الإقتراع العام و ذلك لتعبير عن إرادة الشعب و التخلص من الفساد في المجتمع و إحترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية و القضائية و التنفيذية و أن تخضع هذه السلطات للتعديل من أجل ضمان الحريات الفردية و للحد من الإمتيازات الخاصة و رفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات لكي تكون هذه المؤسسات معبرة عن إرادة الشعب وبالتالي كون الدولة محايدة وعلى النظام أن يعتمد آلية السوق الحرة .

النموذج الرابع : الديمقراطية الاشتراكية ، يعد لينين قائد ثورة أكتوبر الإشتراكية هو من وضع أسس الديمقراطية الإشتراكية حيث أن لينين رفض فكرة الديمقراطية البرلمانية بشكل قاطع معتبرا أن وجود أقلية لا تتجاوز خمس مئة شخص تمثل الشعب تضع مصالح الشعب بيدهم وهم عدد قليل من الممكن شرائهم ويصبحون جزء من الحكومة بشكل غير مباشر ورفض مبدأ فصل السلطات الذي كان سائدا في الدول التي تعتمد الديمقراطية البرلمانية وكانت التجربة اللينينية في تطبيق الديمقراطية هي وضع سلطة تنفيذية تشريعية واحدة بدون فصل تسمى مجلس السوفييت الأعلى وكلمة سوفييت تعني الشورى أي أن الاسم العربي كامل مجلس الشورى الأعلى ويتم انتخاب هذا المجلس بشكل هرمي حيث تبدأ الانتخابات من مجالس السوفييت إنطلاقاً من الأحياء وثم مجالس أعلى تنتخب من مجالس الأحياء وهي مجالس المناطق والقرى وهكذا لتصل إلى المجلس الأعلى للشورى لكن مع ولادة التجربة بدأت تنهشها البيروقراطية وتحول ممثلي الشعب إلى قيادات ثابتة لمدة أربع سنوات فكتب لينين لقد تحول ممثلي السوفييت إلى برلمانيين لا يتم تغييرهم إلا كل أربع سنوات لذلك يجب أن يكون عضو السوفييت قابلا للسحب أي تحويل مجالس السوفييت إلى مؤتمر مفتوح ليكون كل منتخب قابل للمراقبة والسحب عندما يفقد ثقة ناخبيه مباشرة دون انتظار المؤتمرات ([5]) وهنالك دعوات معاصرة ونماذج خليطة من الأنظمة السياسية تحاكي معنى الديمقراطية الاشتراكية .

النموذج الخامس : الديمقراطية الشيوعية ، ويقصد بها الممارسة المباشرة للشعب للحكم الذاتي حسب ماركس والذي تتحقق مع المجتمع اللاطبقي ، وهو المجتمع الشيوعي لسعيد الذي يطمح وينظر له ماركس عبر مسير تاريخية من كدح البروليتاريا أو الطبقة العاملة من مناهضة النظام الرأسمالي وإقامة النظام الاشتراكي ومن ثم دكتاتورية تلك الطبقة البروليتارية وبعدها إلغاء الدولة بإعتبارها أداة للهيمنة والسيطرة وبالتالي إعلان المجتمع الخالي من الهيمنة والاستغلال والخالي من التفاوت الطبقي وحينها تكون الديمقراطية الفعلية لان الشعب ككل يَحكِمون ويُحكَمون لكن حسب آلية (جميع الشؤون العامة مدارة جماعيا) وذلك عن طريق الإجماع كمبدأ في اتخاذ القرارات حول سائر القضايا العامة ، وهنالك من يتهمها باليوتوبيا أو الخيال ، وانه على الرغم من كل الصرامة العلمية المتوخاة في المنهج الماركسي إلا انه في تنظيره لنهاية تطور المادية التاريخية قد دخل في حذر منه وهو اليوتوبيا .

كل ماسبق كان قبل بزوغ فجر القرن العشرين الذي حاول أن يتجاوز يوتوبيا الأنظمة أو فوضويتها أو أزماتها فأنتج بدوره التاريخي انساقا أخرى من النماذج الديمقراطية كان أهمها :

النموذج السادس: الديمقراطية النخبوية التنافسية، يعتقد أصحاب هذا الرأي انه يجب استبعاد الأفكار التي تقول ان الشعب متمتع بخيارت عقلانية حول جميع المسائل السياسية ، أي انه يستطيع ان يبدي رأيه في مواضيع الشأن العام مباشرة أو عن طريق ممثليهم ، وهذا كله ليس من مهام الشعب لان مهامه محصورة بالية انتخاب الرجال القادرين على اتخاذ القرار .
وعليه فالديمقراطية هي منهج سياسي يعتمده الشعب كناخبين للقيام دوريا بالاختيار بين مجموعات، قيادية، نخب ، متنافسة .وعليه تصبح الأحزاب هي المسيطرة على السلطات في الدولة ، ويكون الناخبين عبارة عن مجموعة ضعيفة الاطلاع أو عاطفية ،ويكون الحكم فيها مركزيا بجهازه التنفيذي القوي ([6]) ، في حين يسوق هذا الاتجاه الرأي نحو كون الديمقراطية ليست بطريقة حكم وإنما طريقة لتحديد الحكم واختيار الحاكمين ([7])

النموذج السابع: الديمقراطية التعددية ، ويمكن عدها فرعا من النخبوية السابقة إلا إن الفرق هو إن النخب التي تنتج عن المساومات والانتخابات كفئة قائدة ، هي جزء من الوعي والقيم المجتمعية للأمة أو الشعب وليس بالمعنى السابق على أنها تمثل فكرة الأبطال وإنهم يتخذون مايرونه بأنفسهم صالح ؛لا ، هنا الأمر يختلف بحيث أن مايقروه هو مايعبر المنظومة القيمية والإرادية للمجتمع ، وعليه فانهم حينما يقررون لايقررون بمفردهم بل بحضور معنوي قيمي لكل الناخبين للممثل .
وهنالك نوعين من هذه الديمقراطية هي التعددية الكلاسيكية والتعددية الجديدة ، والفرق قليل بينهما يمكن تشخيصه ، الجماعات في الكلاسيكية تهدف إلى تقاسم السلطة بما يخدم مصالح المتنافسين ، أما في التعددية الجديدة فهي صراع من اجل السلطة ، في الكلاسيكية السعي إلى النفوذ السياسي والقوة المعنوية عبر محاولات تحصيل الشرعية النظمية أو الشعبية بواسطة جماعات الضغط ، إلا انه في النيو تعددية جماعات الضغط فيه تسعى إلى برنامج سياسي منحاز لمصالح الشركات ي خضوع السياسة إلى الاقتصاد .([8])

النموذج الثامن: الديمقراطية القانونية ، تقر هذه الديمقراطية بفاعلية مبدأ الأكثرية أو الأغلبية وهي ترى انه يبقى أكثر أسلوب فعالية ورغبة لدى الأفراد ، إلا انه يجب يتقيد بسيادة القانون ، (سيادة القانون على الكل ).
فالديمقراطية ليست كذلك إذا أعطت إرادة سائبة للأغلبية ([9] ) ومن سماتها أنها دستورية وتؤمن بمبدأ فصل السلطات ، وعلى الدولة أن لاتتدخل في الحياة الخاصة إلا بأدنى حد مع الضرورة ، المبادئ التي تقوم عليه هي ليبرالية ، إلا إنها تحاول أن تقيد كذلك دور جماعات الضغط والمصالح وتقليص الأخطار الناجمة عن النزعات الجمعية ، وعلى ذلك فهي مزاوجة بين الجمهورية والليبرالية عبر التأطير بالقانون .

النموذج التاسع ديمقراطية المشاركة ، ويقصد بها النظام الديمقراطي القائم على الشعور بالكفاءة السياسية التي تغذي الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية ، ويساهم في تشكيل كتلة من المواطنين مطلعة وقادرة على الاهتمام الدائم ، وبذلك تكون مشاركة المواطنين مباشرة في تنظيم المؤسسات الاجتماعية ، محاولة إلقاء البيروقراطية لأنها تمثل الأشخاص الذين يصعب محاسبتهم في الحياة العامة والخاصة أو تقليصها للحد الأدنى ، دعم المرأة كمشاركة فعالة جنبا إلى جنب مع الرجل ،([10]) وقد يتهم هذا النموذج أيضا بالمثالية في كونه يصعب تطبيق فعالية المواطنين الواعين والمتطلعين إلى حلول المشاكل الاجتماعية ، إضافة إلى صعوبة القضاء على الجهاز البيروقراطي الذي يمثل عماد الدولة الحديثة ، .
النموذج العاشر: الاستقلال الديمقراطي
، يعني الاستقلال "قدرة البشر على المحاكمة بوعي ذاتي ، على أن يكونوا متحلين بصفة تأمل الذات وعلى أن يكونوا قادرين على تقرير مصائرهم "([11] )،ويرى أصحاب هذا الرأي انه لايمكن تحقيق الاستقلال الديمقراطي إلا من خلال إعادة التفكير بفعل الدولة وإمكانية محاسبة فعل الدولة من جهة ومن جهة أخرى إمكانية المجتمع على القيام بهذا الدور عبر التنشئة الديمقراطية ، وذلك يتطلب عمليتي إصلاح وتنمية ؛ إصلاح للمؤسسة السياسية وتنمية للمجتمع المدني ، وذلك يستدعي أن تكون هنالك حقوق متساوية للمواطنين ، وذلك من اجل تقرير أحوال حياتهم الخاصة ، وكذلك دعم دستوري لمسألة الاستقلال .* وكل ماسبق يمكن تفعيله عبر استحداث آليات ديمقراطية جديدة من محاكم المواطنين وتغذية الناخبين الراجعة ، لتعزيز فعالية المواطنين([12] )

وهنالك نماذج أخرى مثل النموذج الكوني والنموذج التداولي ، وكلاهما يمكنهما أن يأخذا بعدا اكبر من بعد الدولة القومية أو دولة الأمة الحديثة ، نحو فضاء أوسع هو العالم ككل ، لذلك اتسمت بكونها أممية وكونية ، والنموذج الكوني يعرضه ديفيد هيلد في كتابه نماذج الديمقراطية الجزء الثاني ، والديمقراطية التداولية هي مايتبناه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ويقيمها على البعد اللغوي وأخلاق النقاش بين المتحاورين العقلانيين الهادفين إلى التوافق حول الشؤون العامة بما فيه شكل الحكم وآلياته .

النموذج البديل
النموذج الحادي عشر : الديمقراطية التفاعلية
، ونرى انه يمكن تطوير نموذج للديمقراطية ، يحاول تلافي ضبابية التنظير أو صعوبة التطبيق التي أوردتها النماذج السابقة ، وذلك بما اسميه نموذج الديمقراطية التفاعلية وهي في نوع منها انجاز لنموذج الاستقلال الديمقراطي وديمقراطية المشاركة ، إلا إنها تختلف بميزات عدة نظهرها تبعا في الدراسة ،وتظهر أهمية نموذجنا لأنه "ينبغي تأكيد حقيقة إن محاولة تطوير تصور ديمقراطي للخير السياسي – الحياة الصالحة محددة في ظل شروط حرة ومتساوية للانخراط السياسي - لا تقدم أي علاج سحري لسائر المظالم ، الشرور والأخطار ، غير إن مثل هذه المحاولة ترسي بالفعل أساسا صلبا للدفاع عن عملية الحوار وصنع قرار عامين بشأن قضايا عامة وتقترح طرقا مؤسسية لتطور مثل هذه العملية "([13])
وعليه فالنموذج المقترح هو إمكانية تفاعل المواطنين الأحرار الذين ينتجون نظاما ديمقراطيا يتسم بالية الاقتراع وتقسيم السلطات ، ووجود جماعتا مصالح وضغط ورأي عام يتشكل في بيئة تمثل مطالب أولئك المواطنون لغرض تحديد معالم السياسة العامة الصادرة من قبل النظام الديمقراطي ، ومن ثم فإن النموذج الديمقراطي التفاعلي يقضي بدوره بتفاعل السلطات ( النظام السياسي) بالاستجابة لتلك المطالب لتحويلها إلى تشريعات وقوانين تمثل دسترة وشرعنة لفعل مجتمع المواطنين الأحرار الفاعلين ، وعليه يكون الحكم يمر بالسلطة باعتباره أداة بيد المواطن ومن اجله وبسببه تشكلت ومارست فعلها ، وينتظر المواطنون الفعالون نتيجة تلك التشريعات والنصوص القانونية إن كانت تلاءم ماصبوا إليه وتمنوه وارتجوه ، فإن لم يحقق مطالبهم ، عادوا به وردوه إلى سلطتهم لغرض تحقيق الانسجام من جديد وهذا فحوى التفاعل .
ويمكن أن نقول إن الإيحاء بهذا النموذج كان نابعا من نظرية ديفيد أوستن في النظرية النظمية في الدراسات السياسية ، والتي أقامها لغرض وصف وتفسير سلوكية النظام السياسي عبر آلية المدخلات In puts والمخرجات Out puts.([14]) كما ن هذه الفعالية ( بين المجتمع والدولة ) يمكنها أن تستخدم فكرة المجالس المواطنية وهي مجالس تكون موزعة جغرافيا داخل الدولة لغرض تحقيق الفاعلية وهي ميدان حر لتبادل وجهات النظر ومناقشة المطالب ، والقوانين والتشريعات الصادرة عن السلطة السياسية ، كما ولها حق تقييم وتقويم أداء وسلوك النظام السياسي ، ولها الحق في تبني مواضيع تقدم إلى السلطة القضائية على إنها انتهاك لحقوق المواطنين أو خرق لآلية الحكم المفترضة ، ولهذا لايقتصر دور النموذج في مخاطبة السلطتين التنفيذية والتشريعية بل إن القضائية تكون بتماس مع المواطن عن طريق النظر في مطالبه وتوفير نوع من التغذية الاسترجاعية الكفيل بمراجعة الأحكام الصادر كمحكمة مواطنية للتمييز ( بإطار قانوني موكول تشريعه للسلطة التشريعية ) وذلك مايسوغ لـ"مبدأ التشريع المستمر" ([15]) الذي يستدعي الفاعلية المطلوبة للمواطنين والدولة ، كما انه يجب أن تمنح صلاحية للشعب عبر استفتاءات أو قرارات المجالس المواطنية في إعفاء النواب وفصلهم إذا لم يستطيعوا أن يحققوا مطالب جمهورهم .




الديمقراطية التفاعلية




والفرق بين هذا النموذج ونموذج أوستن هو زيادة المحاكم والمجالس في خانة المطالب وتقييم الأداء والخطابات السياسية والبرامج الحكومية في استجابات النظام ، وإمكانية الصلة بين المواطن وكل السلطات بالمطلب والتقييم والتقويم للأداء وهذا مالم يعره أوستن أية أهمية .


أزمة الأنظمة الديمقراطية
هنالك جملة من الأزمات التي تعتري النظام الديمقراطي ، إلا انه يمكنني إيجازها بأزمتين ومشكلتين رئيسيتين ، تتفرع منها كل المشاكل الأخرى . و هما :
الأولى : أزمة الشرعية : ويمكن تلمس آثار هذه المشكلة منذ نشوء الأنظمة الديمقراطية وعلى مر تاريخها ، فكانت شرعيتها منقوصة لأنها لم تشرك النساء ولا الأجانب ولا العبيد حينما أصبح عدد المواطنين قليلا مع الديمقراطية المباشرة الأثينية ، ولم تستطع تجاوز هذه المشكلة الديمقراطية الجمهورية الرومانية ، لأنها لم تستطع التخلص من نظام الامتيازات ، إلا أن الانعطافة الكبرى ظهرت مع العصر الحديث وفلاسفة العقد الاجتماعي الذي نادوا بوجود حقوق طبيعية بما فيها المساواة والحرية ولذلك كانوا أحرارا متساوون ، ووجود أولئك الأفراد سابق للتنظيم السياسي وعليه فهم حينما يشكلوه ، يشكلوه حسب ما يرجون وعليه يمتاز بنوع من الشرعية ، إلا إن المستوى النظري لم يستطع أن يجد له واقع ممارسة وتطبيق ، وعليه فالأزمة لم تحل ولم تنتهي لأنها لم تستطع أن تجد لها سبيلا في ارض الواقع ، وحاول الجمهوريين مع روسو أن يعملوا انعطافة أخرى نحو الإرادة العامة والجمعية لغرض توسيع آلية الديمقراطية المباشرة من المدينة إلى الدولة أو الأقاليم وعليه كانت محاولة لحل الأزمة عبر إنشاء مجالس جمعية تمثل تلك الإرادة وتعطى السلطات بيدها وهي تمثل الجميع وهم يخولون من يشاءون لإدارة الحكم كسلطة تنفيذية مخولة ومراقبة وحينما تخطيء تقال ، إلا إن الأمر واجه صعوبة التحقيق هو الآخر إذ إن تطبيق هذا النموذج وسيادة الشعب بهذه القوة لم تر النور لليوم .
ومع الديمقراطيات الاشتراكية والشيوعية لم تستطع أن تتجاوز المحنة لأنها وقعت في مشكلة الاستبداد الحزبي والطبقي ، وعليه انتقلت من حيز الأنظمة الديمقراطية إلى الأنظمة الدكتاتورية ، ومع نظريات القرن العشرين والتركيز وبوضوح وعلانية أكثر لمسألة الشرعية ، وكيف ادعى البعض إن الاقتراع هو أول مراحل منح الشرعية ، إلا إن استمرارية الشرعنة هو دوام رضا مواطني ذلك النظام ، وذلك صعب المراد والتحقيق ، وعليه بقى موضوع الشرعية هو الذي يدعم محاولات إعادة التنظير لنماذج جديدة من الديمقراطية ، ويمكنني أن ادعي إن الديمقراطية التفاعلية إن تحققت وهي ممكنة التحقيق ستعالج بنسبة مشكلة الشرعية عبر المجالس المواطنية وبرنامج المدخلات والمخرجات . وتنبثق عن هذه الأزمة أزمات أخرى مثل التمثيل النسبي ومشكلة تمثيل الناخبين الذي لم يستطع مرشحيهم من الصعود إلى قبة البرلمان فبالتالي يصبح المواطنون بلا ممثل وعليه فهو غير مشارك في السلطة وسيغيب حينها معنى أي سيادة شعبية .

الثانية : أزمة الدافعية : وهي أزمة يمكن بجزء منها أن تنسل وتتفرع من مشكلة الشرعية، (بسبب عدم الرضا تجاه النظام السياسي واليأس منه يؤدي إلى رفض المشاركة بأي شكل من الأشكال معه ) إلا إننا نجعلها مستقلة لكونها تمثل العجز في الجانب المواطني أو جانب الناخبين ، في مقابل الدولة وأزمتها ( الشرعية) .
وتتلخص أزمة الدافعية في إضعاف دافعية الناس للمشاركة مشاركة فاعلة في النظام على أي وجه من الوجوه.. ومن أسبابها تنامي قوة الدولة البيروقراطية والذي يؤدي إلى ضعف إمكانية المشاركة المثمرة في عملية اتخاذ القرار ، عبر المؤسسات الديمقراطية كالأحزاب أو الانتخابات ([16]) ومن أسبابها عدم إيمان المواطنين بنموذج الحكم أو عدم الوعي به من جانب ومن جانب آخر فشل النظام السياسي في تلبية مطالب المواطنين ويزداد سوءا حينما يواكب المواطن نفسه أكثر من تجربة ديمقراطية ويكون الفشل أو العجر هو حليفها ، فذلك يقود كنتيجة مقبولة في أعظم الحالات إلى صنع نوع من النفور واللامبالاة بالعملية السياسية بل النظام وبمختلف نماذجه ، ومن أهم أعراض هذه الأزمة الحركات الطلابية والنقابية وبعض النصوص الفلسفية والفكرية التي تنظر باتجاه فشل النظام الديمقراطي وضرورة استبداله ، وعليه كان نموذج الديمقراطية التفاعلية نموذج محاولة أيضا للقضاء على إمكانية أن تكون هنالك أزمة دافعية عبر مشاركة المواطنين الفعالة .
* النظام السياسي : هو نظام اجتماعي وظيفته إدارة موارد المجتمع استنادا إلى سلطة مخولة له وتحقيق الصالح العام عن طريق سن وتفعيل السياسات. و النظام السياسي: في صورته السلوكية هو تلك المجموعة المترابطة من السلوك المقنن الذي ينظم عمل كل القوى والمؤسسات والوحدات الجزئية التي يتألف منها أي كل سياسي داخل أي بناء اجتماعي. والنظام السياسي: في صورته الهيكلية هو عبارة عن مجموعة المؤسسات التي تتوزع بينها عملية صنع القرار السياسي وهي المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية

** من الايجابيات ، الصفة العامة لدور الشعب في الحكم ، وتسيده على أموره وشؤونه الخاصة ، وحقه في التصدي لإدارة شؤون العامة .
[1] )سول كي بادوفر: معنى الديمقراطية ، ترجمة رياض عبد الواحد ، دار الشؤون الثقافية – بغداد، ط1، 2007 ، ص11 .
[2] ) كارل شميت : أزمة البرلمانات ، ترجمة فاضل جتكر ، معهد الدراسات الإستراتيجية ، بيروت،ط1، 2008 ، ص18.
[3] ) ديفيد هيلد : نماذج الديمقراطية ، ترجمة فاضل جتكر ،معهد الدراسات الإستراتيجية ، بيروت ، ط1 2006 ، ص 177
[4] ) الموسوعة الحرة (ويكبيبيديا) : الديمقراطية الليبرالية / تاريخ الزيارة 6-3-2010 .
[5] ) الموسوعة الحرة (ويكبيبيديا) : الديمقراطية الاشتراكية / تاريخ الزيارة 6-3-2010 .
[6] ) ديفيد هيلد : نماذج الديمقراطية ، ص 343
[7] ) ماكيفر : تكوين الدولة ، ترجمة حسن صعب ،دار العلم للملايين ، بيروت ،1966 ، ص247 .
[8] ) ديفيد هيلد : نماذج الديمقراطية ، ص377 .
[9] ) المصدر السابق ،445 .
[10] ) المصدر السابق ، ص 468 .
[11] ) ديفيد هيلد : نماذج الديمقراطية ، ص 514
* اعتماد التقسيم هو ماعتمده ديفيد هيلد في كتابه نماذج الديمقراطية مع تعيل من قبلنا ، فهنالك بعض النماذج لم نوردها واخرى حولناها من فرعية الى اصلية ، واضفنا رؤيتنا وهي ماسميناها بالديمقراطية التفاعلية .
[12] ) المصدر السابق ، ص553 .
[13] ) المصدر السابق ، 510
[14]) لمراجعة نظرية أوستن بتفصيل أكثر ينظر : شيرزاد احمد النجار : دراسات في علم السياسة ،مطبعة وزارة الثقافة ، اربيل – العراق ، 2004 ، ص10-71 .
[15] ) دليسل بيرنز: الديمقراطية ، ترجمة وتعليق محمد بدران، سلسلة المعارف العامة – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، مصر، 1938 ، ص114 .
[16] ) أيان كريب : النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 1999 ، ص359 .