السلطات الأصولية وصراعها:
المنطلقات الغائمة والنتائج العنفية .
آليات الصراع تبدو تمثيلا للمجد وإثبات الهوية والمصالح. فأين كل معاني الإنسانية التي حاولت الأديان حسب معتنقيها وعلى تعددها أن تدعو لها؟
بقلم: د. علي عبود المحمداوي
بعد أن تستحكم الأصوليات على محيطها الجغرافي الوطني- نوعا ما - (وذلك ما لمسناه في المنعطفات الجديدة لحركات الإسلامويين) تبدأ بالتفشي والانتشار كأمراض معدية خارج الحيز الوطني لتصنع لها حيزا دوليا، وتخلق لها صورة مرعبة ومستفزة ومستكرهة من الآخر، صورة بشعة ترتسم في أفق تاريخ دموي منذ 15 قرنا، هكذا هي الصورة وليس ما نتصوره نحن فقط، والأصوليات هي تسمية راجت مؤخرا لتصف الفهم المتطرف والمتشدد والعنفي للاسلامويين.
أود في مقالي هذا أن اكشف مباني الصراع الذي هو حليف ماهية الأصولية، والعنف ومسوغه لديها، لذلك فإنني أسعى إلى عرض وتحليل أنواع الصراع الحاكم لأصل التعامل الحضاري أو الدولي (صراع الأصوليات)، اعتقادا مني أن الصراع هو الصورة الأخرى لعملة الأصولية، فالحقيقة المطلقة والواحدة تصنع نرجسية عنفية، وهنا ينبثق التساؤل: ما مستويات الصراع وما دوافعه؟ قد يبدو هذا التساؤل ساذجا ومشبعا بالبحث، لكن مما لاشك فيه انه السؤال المركزي لحكاية الإنسان في عالمنا اليوم، وعليه فإن تلك المسوغات والدوافع هي:
أ- الصراع من اجل المصالح: والحقيقة إن هذا النوع من الصراع هو ما وجه الغرب في الحقبة الحديثة والمعاصرة وفي أكثر تحركاته نحو الآخر في الشرق (الإسلام وجيرانه)، إذ المواقع الإستراتيجية للقواعد العسكرية من جهة ، وللعمال الاقتصادي كمادة خام وكسوق تصريف من جهة أخرى ، فالعالم الإسلامي مستهلك وبدرجة عالية ، على الرغم من كل ما يمتلكه من ثروات ومواد أولية، وهذا النوع من الصراع تجلى واضحاً في أغلب إن لم تكن كل حروب الدول الأوربية بعنوان الاستعمار، أو حروب أميركا بعنوان نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والأنموذج الليبرالي الأميركي، و"تمايز الحضارات الديني واللغوي والتاريخي والثقافي، لا يؤدي إلى الصدام والصراع، وإنما الذي يؤدي إلى الصدام والصراع، هي المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية العليا".
ب- الصراع من أجل القيم:
وهذا الضرب من ضروب الصراع يمكن أن يلاحظ جلياً في كونه المبدأ المتبنى من قبل الاتجاه الإسلامي = المصطدم بالغرب، وصراع القيم هو المبرر الأساس لفكرة الجهاد عند المسلمين (الحرب المقدسة)، ومن ثم فاللين والتولي والتسامح والتعامل السلمي مع الغرب مرفوض في المصطلح الديني (لمنظومة الأفكار الإسلامية المعادية للغرب والمتصارعة معه) لأنه كافر! لا يجوز التعامل معه بهذا الشكل.
والحقيقة الأهم مما سبق، إن القرآن نفسه حمال أوجه! وفهمه في بطون! إن القرآن سطوح وفهمه طبقاتي!
فكل فهم يفتح فهما آخر، هنا يلعب التأويل الدور الأساسي فيه بعد فك شيفرة التفسير الترابطي بين مدلولاته الحرفية، إلا إن الفاعل الأيدلوجي منه وغيره، يحاول أن يدخل بين العلامة والمعنى، انه المؤول، لكن تعددية المؤول والعلامة الطبقاتية والمعنى المرجئ والمتشضيء في بطون، يجعلنا أمام إمكانية قيام حقائق أخرى بالقوة نفسها التي يحملها الأصولي، إنها صراطات مستقيمة كما يحلو لسروش تسميتها، ولا صراط مستقيم واحد. لذلك نجدنا أمام تراث مقابل لتراث الصراع القيمي، بل قبول قيمي على أساس التعددية، إلا انه خجول تاريخيا وواقعيا وقد يؤد استقباليا!
إذ لا يمكن أن نعّد ما سبق من مصادمة الآخر ورفضه من الفكر الرافض للغرب (بعنوان الكفر وحرمة التعامل) هو الرأي الحاسم والأساس في تعامل الإسلام مع الغرب، فالثقافة الدينية أو التدين الحاصل لدى المتبنين لهذا الفكر والذين حدوا به إلى الظاهرية والحرفية والحدية والجمود (الأصولية)، جعلوا من الدين الإسلامي حكرا على فئة من دون أخرى وكذلك جعلوه يظهر أمام الآخر بأنه لا يفهم معنى التسامح، ولا يتعامل بغير لغة الدم والقتل، بالرغم من إنني لا أبرئ الطرف الآخر الغربي من ارتكابه للقتل وممارسته للعنف، إلا انه لا يعني أن يقابل ذلك الفكر بشبيهه وان كان خاطئاً.
والتعارض الحاصل في ظاهر النص والفكر الديني الإسلامي هو محل جدل كبير إذ إن البعض من الآيات نسخت لتحل محلها أخرى، وبعضها نزلت (!) من اجل حادثة تاريخية معينة وجاءت وصفية أو توجيهية في حينها وهي الآن ليست إلا نموذجا تاريخياً يتلى لضرب الأمثال واخذ الحكم، وغيرها تناقض في المعنى الذي قد تحمله آيات أخرى، ولعل فهمنا هو من يحمل التناقض، إلا أن الفهم المتحصل لدينا هو الآخر تراث مفسرين القرآن ومؤوليه! وما يهمنا هو فاعلية الآيات والنصوص الدينية الآنفة الذكر التي تدعم الفكر المعتدل ومبدأ التسامح والقبول بالآخر ومدى قوة هذه النصوص وثباتها، وكيف يمكن الإفادة منها لغرض الدفع بإتجاه السلم الديني والثقافي.
ج- الصراع لإثبات الهوية:
كما ويمكن تلمس كيفية كمون صراع الأصوليات في مسألة الهوية من جانب؛ إن الكل يريد هوية الأوحد في العالم، وإذا لم تكن أو لم يستطيعوا أن يقوموا بها فعلى اقل التقديرات يجب أن يكونوا كيان مستقل في مواجهة الآخر، هكذا هو خطاب الهويات الأصولية، إلا أنه لايمكن القول إن مسألة الهوية تنطوي تحت عنوان الصراع وانه لايمكن تحصيل الهوية أو التعريف بها أو الاعتراف أو الاحترام لها إلا مع الصراع، فهذا هو الفكر الأصولي بعينه إلا أن الحقيقة أن الهوية ترافق التسامح والتعاون الذي يصور الهوية على أجمل ما تكون لاكما تصورها عملية الصراع والصدام والحروب، (وان كان قد حصلت بسبب الأصوليات) فالهوية وما لها من تأثير في عملية الصراع الحضاري لا يمكن أن تعد أمراً بسيطاً أو هيناً، إذ أصبح موضوع الهوية في الأدبيات السياسية والفلسفية والاجتماعية رائج التداول، لأنه كان سبباً وشكلاً لكثير من الصراعات التي أخذت شكل الصراع من اجل نيل الاعتراف وتضخيم الذات.
هكذا تبدو آليات الصراع تمثيلا للمجد واثبات الهوية والمصالح، فأين كل معاني الإنسانية - التي حاولت الأديان حسب معتنقيها وعلى تعددها- أن تدعو لها؟! اعتقد إن الأمر أكثر شائكية من أن يفهم ببساطة، لكن عرضه على علاته يتيح محاولات فهمية مسكوت عنها.
آليات الصراع تبدو تمثيلا للمجد وإثبات الهوية والمصالح. فأين كل معاني الإنسانية التي حاولت الأديان حسب معتنقيها وعلى تعددها أن تدعو لها؟
بقلم: د. علي عبود المحمداوي
بعد أن تستحكم الأصوليات على محيطها الجغرافي الوطني- نوعا ما - (وذلك ما لمسناه في المنعطفات الجديدة لحركات الإسلامويين) تبدأ بالتفشي والانتشار كأمراض معدية خارج الحيز الوطني لتصنع لها حيزا دوليا، وتخلق لها صورة مرعبة ومستفزة ومستكرهة من الآخر، صورة بشعة ترتسم في أفق تاريخ دموي منذ 15 قرنا، هكذا هي الصورة وليس ما نتصوره نحن فقط، والأصوليات هي تسمية راجت مؤخرا لتصف الفهم المتطرف والمتشدد والعنفي للاسلامويين.
أود في مقالي هذا أن اكشف مباني الصراع الذي هو حليف ماهية الأصولية، والعنف ومسوغه لديها، لذلك فإنني أسعى إلى عرض وتحليل أنواع الصراع الحاكم لأصل التعامل الحضاري أو الدولي (صراع الأصوليات)، اعتقادا مني أن الصراع هو الصورة الأخرى لعملة الأصولية، فالحقيقة المطلقة والواحدة تصنع نرجسية عنفية، وهنا ينبثق التساؤل: ما مستويات الصراع وما دوافعه؟ قد يبدو هذا التساؤل ساذجا ومشبعا بالبحث، لكن مما لاشك فيه انه السؤال المركزي لحكاية الإنسان في عالمنا اليوم، وعليه فإن تلك المسوغات والدوافع هي:
أ- الصراع من اجل المصالح: والحقيقة إن هذا النوع من الصراع هو ما وجه الغرب في الحقبة الحديثة والمعاصرة وفي أكثر تحركاته نحو الآخر في الشرق (الإسلام وجيرانه)، إذ المواقع الإستراتيجية للقواعد العسكرية من جهة ، وللعمال الاقتصادي كمادة خام وكسوق تصريف من جهة أخرى ، فالعالم الإسلامي مستهلك وبدرجة عالية ، على الرغم من كل ما يمتلكه من ثروات ومواد أولية، وهذا النوع من الصراع تجلى واضحاً في أغلب إن لم تكن كل حروب الدول الأوربية بعنوان الاستعمار، أو حروب أميركا بعنوان نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والأنموذج الليبرالي الأميركي، و"تمايز الحضارات الديني واللغوي والتاريخي والثقافي، لا يؤدي إلى الصدام والصراع، وإنما الذي يؤدي إلى الصدام والصراع، هي المصالح السياسية والاقتصادية والإستراتيجية العليا".
ب- الصراع من أجل القيم:
وهذا الضرب من ضروب الصراع يمكن أن يلاحظ جلياً في كونه المبدأ المتبنى من قبل الاتجاه الإسلامي = المصطدم بالغرب، وصراع القيم هو المبرر الأساس لفكرة الجهاد عند المسلمين (الحرب المقدسة)، ومن ثم فاللين والتولي والتسامح والتعامل السلمي مع الغرب مرفوض في المصطلح الديني (لمنظومة الأفكار الإسلامية المعادية للغرب والمتصارعة معه) لأنه كافر! لا يجوز التعامل معه بهذا الشكل.
والحقيقة الأهم مما سبق، إن القرآن نفسه حمال أوجه! وفهمه في بطون! إن القرآن سطوح وفهمه طبقاتي!
فكل فهم يفتح فهما آخر، هنا يلعب التأويل الدور الأساسي فيه بعد فك شيفرة التفسير الترابطي بين مدلولاته الحرفية، إلا إن الفاعل الأيدلوجي منه وغيره، يحاول أن يدخل بين العلامة والمعنى، انه المؤول، لكن تعددية المؤول والعلامة الطبقاتية والمعنى المرجئ والمتشضيء في بطون، يجعلنا أمام إمكانية قيام حقائق أخرى بالقوة نفسها التي يحملها الأصولي، إنها صراطات مستقيمة كما يحلو لسروش تسميتها، ولا صراط مستقيم واحد. لذلك نجدنا أمام تراث مقابل لتراث الصراع القيمي، بل قبول قيمي على أساس التعددية، إلا انه خجول تاريخيا وواقعيا وقد يؤد استقباليا!
إذ لا يمكن أن نعّد ما سبق من مصادمة الآخر ورفضه من الفكر الرافض للغرب (بعنوان الكفر وحرمة التعامل) هو الرأي الحاسم والأساس في تعامل الإسلام مع الغرب، فالثقافة الدينية أو التدين الحاصل لدى المتبنين لهذا الفكر والذين حدوا به إلى الظاهرية والحرفية والحدية والجمود (الأصولية)، جعلوا من الدين الإسلامي حكرا على فئة من دون أخرى وكذلك جعلوه يظهر أمام الآخر بأنه لا يفهم معنى التسامح، ولا يتعامل بغير لغة الدم والقتل، بالرغم من إنني لا أبرئ الطرف الآخر الغربي من ارتكابه للقتل وممارسته للعنف، إلا انه لا يعني أن يقابل ذلك الفكر بشبيهه وان كان خاطئاً.
والتعارض الحاصل في ظاهر النص والفكر الديني الإسلامي هو محل جدل كبير إذ إن البعض من الآيات نسخت لتحل محلها أخرى، وبعضها نزلت (!) من اجل حادثة تاريخية معينة وجاءت وصفية أو توجيهية في حينها وهي الآن ليست إلا نموذجا تاريخياً يتلى لضرب الأمثال واخذ الحكم، وغيرها تناقض في المعنى الذي قد تحمله آيات أخرى، ولعل فهمنا هو من يحمل التناقض، إلا أن الفهم المتحصل لدينا هو الآخر تراث مفسرين القرآن ومؤوليه! وما يهمنا هو فاعلية الآيات والنصوص الدينية الآنفة الذكر التي تدعم الفكر المعتدل ومبدأ التسامح والقبول بالآخر ومدى قوة هذه النصوص وثباتها، وكيف يمكن الإفادة منها لغرض الدفع بإتجاه السلم الديني والثقافي.
ج- الصراع لإثبات الهوية:
كما ويمكن تلمس كيفية كمون صراع الأصوليات في مسألة الهوية من جانب؛ إن الكل يريد هوية الأوحد في العالم، وإذا لم تكن أو لم يستطيعوا أن يقوموا بها فعلى اقل التقديرات يجب أن يكونوا كيان مستقل في مواجهة الآخر، هكذا هو خطاب الهويات الأصولية، إلا أنه لايمكن القول إن مسألة الهوية تنطوي تحت عنوان الصراع وانه لايمكن تحصيل الهوية أو التعريف بها أو الاعتراف أو الاحترام لها إلا مع الصراع، فهذا هو الفكر الأصولي بعينه إلا أن الحقيقة أن الهوية ترافق التسامح والتعاون الذي يصور الهوية على أجمل ما تكون لاكما تصورها عملية الصراع والصدام والحروب، (وان كان قد حصلت بسبب الأصوليات) فالهوية وما لها من تأثير في عملية الصراع الحضاري لا يمكن أن تعد أمراً بسيطاً أو هيناً، إذ أصبح موضوع الهوية في الأدبيات السياسية والفلسفية والاجتماعية رائج التداول، لأنه كان سبباً وشكلاً لكثير من الصراعات التي أخذت شكل الصراع من اجل نيل الاعتراف وتضخيم الذات.
هكذا تبدو آليات الصراع تمثيلا للمجد واثبات الهوية والمصالح، فأين كل معاني الإنسانية - التي حاولت الأديان حسب معتنقيها وعلى تعددها- أن تدعو لها؟! اعتقد إن الأمر أكثر شائكية من أن يفهم ببساطة، لكن عرضه على علاته يتيح محاولات فهمية مسكوت عنها.